كي يكون غياب القائد رافعة لتحقيق الدولة - محمود سويد

كما يحدث عادة في العالم الثالث او البلدان المتخلفة يغادر القائد الاوحد مخلفا وراءه فراغا سرعان ما تملأه الفوضى والانقلابات ومحاولات الاستيلاء على السلطة، او مؤسسات رسمية صورية منهكة بالبيروقراطية والترهل والشلل نتيجة طغيان صورة القائد الاوحد وتحكم أجهزته الخاصة بعمل هذه المؤسسات سواء أكانت ناجمة عن التعيين ام عن انتخابات تشبه التعيين، ومؤسسات مجتمع مدني صورية ايضا تفتقد ممارسة الديموقراطية والحريات العامة بمختلف منابرها، وتنطق جميعها بصوت واحد وخطاب واحد هو صدى لصوت القائد وترداد رتيب لخطابه.

وإذا كانت هذه هي حال الدول العربية التي تمثل الآن، في عالمها الثالث، حالا نموذجية للاستبداد والتخلف والفساد، وإذا كانت فلسطين تشبه في بعض اوجه نظامها ومجتمعها الانظمة والمجتمعات العربية الاخرى، فإن من العسف لقائدها وإن كان اوحد ولنظامها ومجتمعها ألا نبرز اوجه التباين بينها وبين تلك الدول.

ففلسطين، في الاصل، مشروع ثورة وحركة تحرر وطني. وهي، بعد اوسلو عام 1993، <<كيان>> يسعى بوسائل سلمية وعنيفة لإقامة <<الدولة>>. كان ياسر عرفات قائدا لكنه لم يكن قائدا اوحد في زمن <<ابو جهاد>> و<<ابو اياد>> وغيرهما من قادة حركة فتح وكوادرها السياسية والعسكرية، وقادة الجبهات والفصائل الاخرى في منظمة التحرير. ثم صار عام 1996 رئيسا منتخبا للسلطة الفلسطينية الناشئة عن اتفاق اوسلو. وهي انتخابات، للرئيس وللمجلس التشريعي، تمت بمراقبة دولية شهدت بنزاهتها. وإذا كانت فترة ولاية الرئيس والمجلس التشريعي قد انتهت منذ سنوات، فإن سلطات الاحتلال وحليفها الرئيسي في واشنطن، هما اللذان يحولان بين الشعب الفلسطيني وإجراء انتخابات جديدة للمؤسسات البلدية والسياسية ولرئيس السلطة، لتأكدهما من ان الشعب الفلسطيني سينتخب قادة وممثلين وطنيين لا يفرّطون بثورته وقضيته، وهو الامر الذي تتحاشاه القيادة الموحدة لشارون وبوش.

القائد الكبير والتاريخي يحقق إنجازات كبيرة وتاريخية ويرتكب أخطاء تؤدي الى انكسارات كبيرة واحيانا تاريخية ايضا. هذا ما حدث لعبد الناصر وكاسترو ونهرو وتيتو وسوكارنو وغيرهم من القادة التاريخيين الذين عاصرناهم. وهذا ما حدث ايضا لمفجر الثورة الفلسطينية المعاصرة وقائدها ياسر عرفات. فعلى الرغم من المراحل الصعبة التي مرت بها الثورة الفلسطينية في مسيرتها من معركة <<الكرامة>> الى الاردن فلبنان فتونس فمرحلة <<الكيان>> في الضفة الغربية وقطاع غزة. وعلى الرغم من ظروف الاحتلال التي بلغت مستوى من الوحشية، خصوصا في عهد شارون/ بوش، لم يبلغه اي محتل آخر في ما عرفنا من نماذجه، وعلى الرغم من ان اسرائيل استطاعت في المراحل المختلفة للثورة الفلسطينية، وخاصة في مرحلة قيام <<الكيان>>، وعلى الاخص في عهد شارون/ بوش، ان تقضي على معظم القيادات والكوادر الفلسطينية، قتلا او اعتقالا وسجنا ونفيا.. على الرغم من كل ذلك، وعلى الرغم من الدور التاريخي الفريد والمميز الذي اضطلع ياسر عرفات بمسؤوليته على مدى اربعين عاما من قيادته للثورة الفلسطينية، بل بحكم هذا الدور وتلك المسؤولية، وعلى الاقل في فترة قيام <<الكيان>> بعد عام 1993 ثم فترة الانتفاضة الثانية بعد 28 ايلول عام 2000، فقد كان بإمكان القائد ياسر عرفات ان يفعل عمل المؤسسات الفلسطينية الرسمية وأن يكون اداؤها افضل مما كان عليه: المجلس التشريعي، الحكومة، القضاء المستقل، الاجهزة الامنية وغيرها. وكان بإمكان ادارته ل<<الكيان>> ان تحرر مؤسسات المجتمع المدني من الضغوط، بل ان تشجع الاحزاب والنقابات والحركات العمالية والطالبية والنسائية والثقافية والمهنية على بناء مؤسساتها الفاعلة عبر الانتخاب الحر فتشكل بذلك العمود الفقري للثورة.

ما هي صورة الاوضاع التي يخلفها ياسر عرفات وهو يغادر الدنيا التي ملأها والناس الذين شغلهم في ارجاء العالم كله طوال اربعة عقود خلت؟

في فلسطين:
قيادة سياسية ضعيفة، وقيادة نضالية (الفصائل) مفككة ومنهكة، ومجتمع مدني مستنزف ومدمر ومفقر. وقد حول الاحتلال الوحشي مدنه وقراه الى معازل محاطة بالاسوار والاسلاك والخنادق التي تفصل بين الاماكن والناس وتجعل حياتهم اليومية جحيما لا يطاق.

هذه القيادة وهذا المجتمع، مطلوب منه اليوم ان يواجه الضغوط الاسرائيلية والاميركية التي ستحاصره بمشاريع الحلول والمخططات الهادفة الى فرض الاستسلام عليه.

وفي العالم العربي:
طغيان اللاسياسة، واستبداد الانظمة الذي لم يعد ينفع لتأمين ديمومتها الابدية، وانحلال المجتمعات وتشظيها الى افراد وجماعات تلهث وراء الرزق وتأمين الدواء واقساط المدارس، دون نجاح يذكر. وهذا وضع مثالي للاستسلام للقوة الاعظم التي تستطيع وحدها ان تحمي النظام وتدعمه وتمنحه شهادة <<الكفاءة>> وتجيز له ان يبقى في أمان.

وفي إسرائيل:
مجتمع انهكته المقاومة الفلسطينية ويتطلع الى حياة من دون حروب ومن دون عمليات انتحارية. لكن ذلك لم يحمله على التخلي عن أطماعه التوسعية، وهو يعجب لأن الفلسطينيين، على الرغم من كل ما اصابهم، لمّا يستسلموا، ولذلك فإن بعض هذا المجتمع (اليمين المتطرف السياسي والديني) يعارض خطة الفصل من جانب واحد، ويعتقد ان الظرف العربي والدولي مثالي لممارسة مزيد من العنف لإلحاق الهزيمة بالشعب الفلسطيني وفرض الاستسلام عليه. أما البعض الآخر (اليمين السياسي والديني واليسار وهذه كلها مصطلحات اسرائيلية) فيلتف حول خطة الفصل الشارونية ويعتبرها الحل الامثل في الوقت الراهن. وتقوم خطة الفصل، كما صار معروفا، على إخلاء قطاع غزة من داخله ومحاصرته براً وبحراً وجواً اي تحويله عملياً الى سجن كبير (حر!) مقابل الاستيلاء على معظم أراضي الضفة الغربية (جدار الفصل العنصري) وحشر الفلسطينيين في معازل غير قابلة للعيش والاستمرار، وإنهاء وضع القدس بالتهويد الكامل، والقضاء على <<حق العودة>> للاجئين الفلسطينيين حتى كحلم بعيد المنال.

وفي العالم:
إدارة اميركية متجددة بقيادة جورج بوش الثاني لأربع سنوات مقبلة. وقد ارسى في الولاية الاولى أسساً متينة لسياسته العالمية (فرض التبعية على اوروبا)، والشرق اوسطية حيث تشكل اسرائيل بقيادة اريئيل شارون الحليف الاول، ويشكل العالم العربي ساحة الحرب على <<الارهاب>> بكل ما تسببه الحروب من قتل ودمار وضياع وتمزق. ولا يزال شعار بوش الثاني الذي يضع الدول العربية امام خيار محدد: إما ليبيا أو العراق وافغانستان، صالحا للولاية الثانية. وفيما اختار معظم الدول العربية نموذج ليبيا على امل المضي فيه دون تشهير ، فإن البعض الآخر لا يزال يكابر: خطوة باتجاه النموذج الليبي، وخوف شديد من التعريق والافغنة. لكن دائما، التمسك بشعار: اي شيء باستثناء اللجوء الى الشعوب والاعتراف بحقوقها في الديموقراطية والحريات والعيش الكريم. فذلك امر لا تستطيعه الانظمة اذ ارست قوانينها وتقاليدها العريقة والقديمة والمتيبسة مضمون حياة من الاستبداد والقمع والاذلال لا قدرة لها على تبديله دون ان تتعرض هي نفسها للاستبدال.

ما هي، في ضوء هذه الصورة الفلسطينية والعربية والعالمية، احتمالات المرحلة المقبلة لتطورات القضية الفلسطينية؟

لطالما تمسكت قيادة شارون/ بوش بالقول ان عرفات هو اكبر عقبة في طريق السلام، وانه لا يوجد شريك فلسطيني للتفاوض معه، مما <<اضطر>> شارون لإعلان <<خطة الفصل>> من طرف واحد.

والحال ان شارون منع الفلسطينيين من إجراء انتخابات عامة تنبثق منها مؤسسات وقيادة منتخبة تشكل حكما شريكا فلسطينيا شرعيا للتفاوض. وفضّل على ذلك تدمير الاساس المادي لنواة الدولة الفلسطينية (المجتمع والمؤسسات) ومطاردة المقاومة ومحاولة تصفيتها لفرض الاستسلام على الشعب الفلسطيني وقسره على القبول بالحل الاسرائيلي لقضيته الوطنية.

وكان من الافضل لشارون ألا يغيب عرفات قبل ان ينجز <<خطة الفصل>> ويضع القضية الفلسطينية امام الامر الواقع المفروض اسرائيليا. لكن الغياب المبكر لعرفات يجرد الحجة الشارونية/ البوشية (لا شريك) من ثوبها الرقيق فتظهر عارية امام العالم: اتريدون قيادة جديدة؟ أتيحوا للشعب الفلسطيني ان ينتخب قيادته. لكن شارون يعرف ان الشعب الفلسطيني، اذا ما اتيح له ان ينتخب، فسينتخب قيادة وطنية لا تفرط بحقوقه في الارض والقدس واللاجئين.

بيد ان القيادة الشارونية/ البوشية، ذات القوة الطاغية، تملك جعبة مليئة بالخدع والاضاليل للمراوغة وإضاعة الوقت. وعلى رأس هذه الاضاليل: العودة الى <<خريطة الطريق>>.

بإمكاننا الافتراض ان قيادة بوش/ شارون (هذه المرة اذ ان التكتيك يفرض ان تبدو الامور بقيادة الولايات المتحدة) ستحاول الظهور امام العالم بمظهر فيه قدر كبير من <<الاستقامة>>. اذ تعلن ان الظروف تسمح الآن بالمضي قدما في الحل كما ترسمه <<خريطة الطريق>> (المعدلة بالشروط الاسرائيلية الاربعة عشر(1)، وبوعد بوش في رسالته الى شارون بتاريخ 14/4/2004)(2).

وإذا افترضنا ان المفاوضات الاسرائيلية الفلسطينية سارت باتجاه إنجاز المرحلة الاولى من خريطة الطريق: وقف العنف، انتخابات فلسطينية وقيادة جديدة. ومن الجانب الاسرائيلي <<تجميد جميع الانشطة الاستيطانية>>. وإذا اردكنا ان في هذه المرحلة من المطالب والتعقيدات ما يجعلها تمتد الى عدة سنوات، فماذا بعد المرحلة الاولى من <<خريطة الطريق>>؟.

الجواب: <<في المرحلة الثانية، تتركز الجهود على خيار إنشاء دولة فلسطينية ذات حدود مؤقتة... كمحطة على الطريق نحو تسوية المركز الدائم...>>. وفي هذه المرحلة: <<تعيد الدول العربية الروابط التي كانت قائمة بينها وبين اسرائيل قبل حدوث الانتفاضة (المكاتب التجارية الخ)>>، و<<إحياء الارتباط المتعدد الاطراف بشأن قضايا تشمل موارد المياه الاقليمية والبيئية والتنمية الاقتصادية واللاجئين والحد من التسلح>> (النصوص من <<خريطة الطريق>> الصادرة عن الأمم المتحدة نيويورك 7/5/2003).

وإذا افترضنا ان <<الدولة الموقتة>> ستكون في حدود مناطق السلطة كما كانت قبل 28/9/2000 اي قبل اندلاع الانتفاضة، اي ما يتراوح بين 3025% من أراضي الضفة الغربية. فما هي عناصر القوة التي ستحول دون ان تكون المرحلة الثانية: الدولة الموقتة، هي المرحلة النهائية للدولة كما تريدها اسرائيل؟

وخلاصة القول ان التحالف الاميركي/ الاسرائيلي سيحاول وضع الفلسطينيين امام سراب خادع اسمه <<خريطة الطريق>>، والعالم الذي يهاب القوة العظمى ويراوغها وقد رحب ب<<خطة الفصل>> على الرغم من وضوح اهدافها الشارونية، سيرحب بالدعوة الاميركية/ الاسرائيلية لتنفيذ <<خريطة الطريق>> ويضغط على الجانب الفلسطيني للبدء بتنفيذ الالتزامات المنصوص عليها في الخريطة.

وإذا كانت الدعوات لقيام قيادة واحدة وبرنامج عمل واحد للانتفاضة والمقاومة المشروعة في مواجهة الاحتلال في الضفة والقطاع، اذا كانت ملحة وضرورية حتى اليوم، فإنها، ابتداءً من الغد، أكثر إلحاحاً وضرورة، بل إنها خريطة الطريق الوحيدة لتأمين شروط استمرار الكفاح الفلسطيني لبلوغ <<التسوية>> كما يجمع عليها الفلسطينيون الآن: إقامة دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة على كامل الضفة الغربية وقطاع غزة وعاصمتها القدس الشرقية.

لقد كان إنجازاً عظيماً للشعب الفلسطيني أن قاوم وحده الآلة العسكرية الاسرائيلية/ الاميركية بكل ضراوتها طوال اربع سنوات، وقد استفردت به في زمن الانحطاط العربي الكامل، والهيمنة الاميركية على العالم. بل إن الشعب الفلسطيني واجه وصمد بجزء من قدراته وامكاناته، في الداخل والخارج على السواء.

وان افضل تكريم لأبي عمار هو تخلي قادة المرحلة الانتقالية الراهنة في السلطة الفلسطينية، وقادة الفصائل والاحزاب والحركات القومية والاسلامية عن اي مصلحة فئوية وأنانية، والارتقاء بالعمل الكفاحي الى مستوى الإرادة الجماعية للشعب الفلسطيني، وتنظيم المقاومة الشاملة الخاضعة للمراجعة في كل مرحلة من مراحل النضال الوطني، وإطلاق حرية شرائح المجتمع الفلسطيني كي تنظم مبادراتها وصمودها ومقاومتها الغنية بتنوعها، والالتفات الى الطاقات الفلسطينية الهائلة في الشتات، والامكانات الشعبية العربية التي تبحث عن قيادات قادرة على توظيفها في الصراع ضد العدو المشترك.

وهذا هو معنى ان يكون غياب ياسر عرفات، القائد التاريخي للثورة الفلسطينية المعاصرة، رافعة لتحقيق حلمه بالدولة المستقلة، او مناسبة لوأد الحلم وتبديد ما راكمته تضحيات شعب في عشرات السنين.

(1) وأهمها: حل الاجهزة الأمنية الفلسطينية وإعادة تشكيلها على أساس <<إصلاحات>> تحدد وظيفتها بمحاربة <<الإرهاب>>، حل التنظيمات الفلسطينية، تأكيد حق إسرائيل في الوجود كدولة يهودية وإعلان فلسطيني بالتخلي عن حق العودة.

(2) وأهم ما في هذا الوعد: عودة اللاجئين الى الدولة الفلسطينية متى قامت وليس الى إسرائيل، حق إسرائيل في ضم مناطق مأهولة باليهود في الضفة الغربية.

مشكور على جهودك الرائع

تشرفت بردك الجميل